كتاب


فردوس مليندا المفقود ...روان علي الشريف


وهران ساحة الكاهنة هذا الصباح لم تكن كما كانت عليه منذ التقينا ذات زوال من يوم الرابع عشر شباط .مقهى تسالة الذي اعتدنا نشرب فيه الشاي الظهيرة لم يعد هناك ،
المكان يعج بالسكارى احتلوا المكان جاؤوا من خارج المدينة يبيتون في العراء في قنينات الكحول تتوسد الجدار الخلفي للمكتبة هم هنا لست ادري منذ متى يتلفظون بشتى أنواع الكلام البذيء. ثم بضعة أطفال لعلهم من حي الأمير يلعبون مبارة كرة قدم لا تنتهي أمام كاتدرائية القلب المقدس وهناك حيث كان في زاوية الشارع كشك عمي الشحمي بائع الجرائد الذي ترك المكان منذ أن قررت البلدية ترحيله قبل حلول الألعاب المتوسطية في رأيها انه يشوه المكان. يا للصدفة اليوم مررت من هناك تغيرت اشياء كثيرة لكن ذكراك لا زالت منقوشة هنا تذكرت لقائنا الأول. كنت هناك في انتظاري بمعطفك الأسود وشالك الأحمر في نهار احمر كهذا بالصدفة. وقتها لم أكن اعرف القديس فلانتين لولاك.
وقفت اليوم برهة أتفحص وجهك الذي لا يراه سواي في هذا اليوم الحزين الذي أحزنتني فيه ذكراك. قطعنا شارع الأمير المقابل وعيني في عينيك. كنت مبتسمة وكنت سعيدا وهمست لنفسي، أيها الرجل الحزين ها أنت تقف أمام مليندا وجه لوجه ،امرأة أحلامك تلك التي كنت تبحث عنها منذ عقود...
في ذلك المطعم الهادئ طلبنا الكثير لكننا لم نأكل إلا القليل .لم تكوني تعرفين ذلك المكان الرائع ما كنت اعرفه أنا عنه يكفي انه كان يأوي اجتماعات الحركة الوطنية قبل الثورة...
كانت الريح عاصفة وكنت بجانبي وعند بلوغنا خنق النطاح المكان الذي كادت الريح أن تخطفك مني لولا أنني مسكتك مضطرا من خصرك فاحمر وجهك وشعرت بالخجل وأكملنا طريقنا إلى متحف المدينة الذي كنت أحبه كثيرا واحن إليه وكنت مصرا أن تبدأ قصة حبنا المضطربة من هناك...

داخل متحف زابانا تجولنا وطرنا كروحين سابحتان عشنا اللحظة في زمن لم يكن زماننا. سكن الخيال المخيلة ورسمنا أولى الخطوات في اتجاه مستقبل كنا نأمل إن ننهيه معا لم نكن نعلم أنه سينتهي بهذا الانتحار، انتحار الأماني التي جمعتنا والتي تنتصب أمامي كجنية واقع يعذبني منذ أن انتهينا قبل أن تنتهي الطريق.
مليندا ما لصمتك يبني جدار فصل يعذبني برهبة السؤال الأبدي عن حب ضيعنا بعد أن ضيعناه وعصر ذهبي وفردوس فقدناه...
مليندا كان القرار فاصلا هذا ما أدركته لكن حاولت إقناعك عند رصيف المغادرين بإمكانية الصداقة أن تكون جدار خلاص نحتمي خلفه أثناء هبوب العواصف .
حاولت إقناع نفسي أن تكون تلك السعادة مختصرة في صورة امرأة عابرة للزمن، زمن حياتي تجلس أمامي يفصل بيني وبينها مسافة قبلة. فمها مرسوم بالكلام مملوء ،عيناها تشعان من الفرح فتنسيني الدنيا ومن هم حولي .أمسكها من معصمها ونسافر سويا بعيدا بأفكارنا ، بأجسادنا نحو الغمام حالمين بالفردوس.
مليندا ..السعادة ليست أن نمتلك من نحب ونحتجزه كعصفور في قفص من ذهب ضد إرادته ونصادر حريته التي لطالما من أجلها نقاتل لكي نتخلص من جنون الرغبة والأنانية التي تشوه الأشياء الجميلة التي تسكن فينا .
السعادة تتجسد أمامنا في الواقع كقوس قزح في يوم ماطر حينما يشتد الألم و تخنقنا العزلة ونتذكر من نحب ونحن بعيدين عنهم، تظهر لنا أطيافهم ونتذكر حسناتهم قبل سيئاتهم ، هي أيضا عندما ننام مطمئنين ونصحوا صباحا فنبتسم حينما نجد رسالة نصية في جوالنا تستفسرنا إن نمنا جيدا.
السعادة هي عندما يدرك المرء أن كل ما كان يتمناه تحقق. السعادة بعد نظر وأشياء لا توصف لكن لا نغتر وننسى أنفسنا وبجرفنا نهرها الهادر فان التعاسة أيضا شيء لا يوصف يمكن أن تأتينا على هيئة امرأة ملهمة ، مهملة نفسها ،غبية لا تفقه شيء، غارقة في حب ذاتها في نرجسية مفرطة تجعلنا ننطوي على أنفسنا وفي أحسن الظروف نشعل سيجارتنا الثانية من الأولى ونتخذ منها خليلة ونسرف في تقبيلها ،نسقط في أحضانها ونفقد الشعور بلذة الحياة، يتعالى دخانها في السماء يحجب الرؤية ويجف نهر الحب الكبير، نغير مصارنا نحو الهاوية ونفقد هويتنا في الإدمان ...
ها أنا الليلة استيقظ من سباتي العميق، من غفوتي بعد صيف حار وبضع خيبات. خرج من عزلتي أتكئ على جدار الشرفة أشعل سيجارة أخرى بولاعتك
التي أهديتها لي منذ عام ونصف احتفظت بها ليوم كهذا مع أشيائي الثمينة لأحرق بها ما تبقى من حنين، أفتح كتابك الأزرق أقرأ مقطعا من روايتك الأخيرة أقف على نفسي هناك ضائعا بين السطور. نظرت إلى السماء الرمادية رأيتك نجمة بعيدة في المجرة ساطعة من غير الأنجم تلبسني جن الكتابة ، تنهدت بعمق ونفثت دخان سيجارتي الوفية التي تقاسمني هواجسي ،أخرجت قلمي وانصعت لكتابة ما يمليه علي جنوني وأنا أدندن بلغة موليار التي كنت تحبينها عدت إليها إكراما لك وللحظات التي قضيناها تائهين بين مرارة الحقيقة وحلاوة الخيال.
في لحظة انبعاث غنيت بلا شعور موال المهزومين.
مليندا رغما عنا نحب وعندما نحب بصدق غالبا ما نفقد عقولنا
ويتساوى في رؤانا الخادم بالملك ولا نعطي أهمية للعواقب..
مليندا احترقت من أجلك وأحرقت كل مراكبي ومستعد لإعادة المحاولة حتى وان احرق المدينة برمتها ولن أستفسر أحدا فليسقط المطر أو الثلج لا يهمني سوى أنت،
أنت حقيقتي الوحيدة في هاته الحياة ادا لا تسأليني لمادا؟
ما لم تقوليه انك كنت تحرضيني على حرق المدينة وقبل حرقها لا بد لي أن أطفئ كل الأضواء وتعتلين المنبر وتقولي لا نكتب بملء إرادتنا قد تكفيك كلمة واحدة لكي تكتب .. كلمة واحدة قد تفتح فيك أكثر من جرح ،قد تنزف و تنتظر حتى تتحقق أمنيتك إلى آخر رمق وهذا ما يسمى بالأمل.
الأمل هو ذاك الصباح المتجدد، ذاك الكتاب الذي أتصفحه كل ليلة أبحث فيه عنك وعني، في بعض فقراته تتوقف عقارب الساعة وتحيلني إلى أول لقاء، كانت الريح تعصف وكان الشارع الطويل يعج بالغرباء من أمثالنا وكان بالصدفة عيد المحبين.
كادت الريح أن تخطفك مني في لحظات غيرتها أمسكتك من خصرك ومشينا....
بعد سنتين لا زال الشوق يذبحني
ولا زالت صفارات الانتظار توقظني من سباتي
ولا زال طيفك يطاردني في محطات القطارات المغادرة.
بعد سنتين لا زال الجرح غائرا
ولا زالت ذكراك توقظني في منتصف الليالي
لأكتب شيء عن سيرة امرأة مستبدة أحتفظ به لنفسي وأعود اليه كلما تحل ذكراها.
بعد سنتين لا شيء تغير
لا زال قطار منتصف النهار يقلع في وقته
ولا زالت الساعة الحائطية تحافظ على نظامها الدقيق
ولا زالت هناك روحي على الرصيف تودع المغادرين كل خميس
وارى وجهك في كل وجه امرأة تجر حقائبها في عجل..
أذكر جيدا أنه بعد ولادة مليندا بثلاث سنوات بدا البيت حزينا جدا وأنا جد عاجز على إدراك هذا الارتياب الذي حل بنا، أمي أصيبت بانهيار عصبي وفقدت الأمل من عودة أبي مرة أخرى. لم تعد تهتم بوجودي ولا بهندامها. مع مرور الوقت أصدقاء العائلة والأقارب هم الآخرون لم يعودوا كما كانوا سلوكياتهم تغيرت. بدا الصالون فارغا من محتوياته وكساه الغبار. البيانو القديم ظل صامتا في زاوية من الغرفة وصرت أمضي كثير من وقتي في البيت ولا أخرج إلا للضرورة القصوى.
لم أشتر حلوى التفاح المر الذي كان يغلف وقتها بطبقة سميكة من السكر. كانت فكرة ذكية من طرف تجار الشارع الجائلين لبيع منتجوهم الكاسد بسرعة عند أبواب المدارس.
البلد كانت تغمرها شبه حرب والأجواء العامة كانت ثقيلة. هناك وضع غير متوازن لم أدركه جيدا وأنا أخرج صباحا رفقة أمي فوق كرسيي المتحرك إلى مدرستي مارا بالحي المجاور لحي الدرب كانت النار تأكل شقة غادرها سكانها منذ مدة. كان الاضطراب يخيم على صباحات وهران الكئيبة وكانت الوجوه تنفر منا. الأطفال، النساء يلقون التحية على أمي من بعيد يتمتمن بعبارات لا نفهمها وينصرفون.. وحدنا في المساء نعود عابرين نفس الطريق إلى البيت حيث ندخله في صمت.
الكل ينتمي كانتمائي لهذه الأرض ،كل التفاصيل الصغيرة والكبيرة تربطنا بها لكن الشيء الملفت للانتباه بدأت وهران تضيق بسكانها. هناك بعض القرى فقدت توازنها وهوت أغلبية المداشر المحيطة بها ورحل أهلها قصرا بحثا عن الأمان داخل المدينة. فلماذا هذا الرفض وهذه الفوضى...كثير من الأمنيات مرت من هنا.. كثير من الأحلام صدرت من ربيع عمرنا المسروق والغريب في الأمر لم نعد نعرف من يقتل من...؟
لكن الأمر المتفق عليه أنهم لم يعثروا على جثته ولا عن سلاحه الذي كان دائما يحمله معه. عثروا على سيارته عند المخرج الغربي للمدينة بمحاذاة البحر قرب المسمكة أبوابها الأمامية مفتوحة وزجاجها الأمامي مكسر، لا وجود لجثته ولا لبقع الدم كما جرت العادة في الاغتيالات. يبدو أنه كمين محكم كان مخطط له من قبل .أرادوه حيا للاستنطاق. يبدو أنه كان بالنسبة لهم غنيمة كبيرة من خلال مركزه الذي يشغله كعسكري. هناك من قال أنهم رموه في البحر بعدما أجهزوا عليه خنقا جردوه من سلاحه ومنهم من ينفي هذه الفرضية ويعتقد أنها عملية اختطاف.

الاختطاف هي عملة أصبحت متداولة وأسلوب جديد من الجرائم التي حيرت الرأي العام وروعت الناس في هذا الظرف، لا هوية لمنفذيها، لا رحمة ولا شفقة. يأتون في سيارات مموهة، في الظلام في ساعات متأخرة من الليل أو في أولى ساعات الصباح ينفذون مهامهم بعنف مفرط ، أحيانا يتعدون صلاحياتهم ويا ويل من يعترض عليهم وعلى أعمالهم القذرة. يتبع...

ليست هناك تعليقات